لم تكن حقبة عادية تلك السنوات الخمس الماضية من عمر الصراع السياسي في الكويت، فهي حافلة بالأحداث الجسام التي يعرفها الجميع، ومع ذلك لم نشهد حتى هذه اللحظة عملية تقييم جادة لتلك الحقبة، فالتقييم الجاد، لا مجردّ التوثيق، يتيح إمكانية التعرف على إخفاقات الماضي وخيارات الحاضر، وغياب مثل هذا التقييم هو المسؤول عن حالة التّيهان التي نشهدها جميعا في الوضع الراهن، وهو المسؤول أيضا عن انتشار تصورّات مغلوطة على نطاق واسع، لعلّ أبرزها الوهم بحتمية انفراد السلطة بالقرار السياسي، وحصر الصراع السياسي بمقاومة مرسوم "الصوت الواحد"، واقتصار آفاق العمل السياسي على أفق العمل النيابي.
لا نطمح من خلال هذا المقال إلى تقييم ما مضى من أحداث، بل ليس بوسعنا حتى مجرد الإشارة إلى ملامح مثل هذا التقييم، فالجهد المطلوب يتعدّى قدرة الأفراد، ولذلك سنكتفي هنا بافتراض وجود مثل هذا التقييم كي يتسنّى لنا طرح أسئلة من هذا القبيل: ما دور غياب ثقافة المقاومة المدنية في إخفاقات الماضي؟ وما مدى حاجتنا إلى مثل هذه الثقافة في تحديد خيارات الوقت الراهن؟ قبل محاولة الإجابة، لا بدّ لنا أولا من تحديد ما نعنيه بمفهوم "المقاومة المدنية".
المقاومة المدنية هي أحد أنواع العمل السياسي، وهي مقاومة لأنها تأتي استجابة كردّ فعل على انفراد السلطة بالقرار السياسي، وهي مدنيّة لأنها، أولا، جامعة لشرائح المجتمع كافة، ولأنها، ثانيا، مقتصرة في مقاومتها على استخدام الطرق السلمية والابتعاد عن العنف المادي بمختلف أشكاله، ونجاح المقاومة المدنية يعتمد على عوامل عدة، لعلّ أهمها القدرة على توحيد الصفوف، وامتلاك خطط عملية، والالتزام الصارم بسلمية المقاومة.
لا نذيع سرّا عندما نقول إنّ ثقافة المقاومة المدنية شبه معدومة في بلد مثل الكويت، فالعمل السياسي يكاد يكون محصورا في العمل النيابي، وفي اللحظات التاريخية التي يتعرّض فيها العمل النيابي إلى الشلل (كما حدث في النصف الثاني من عقد الثمانينيات أو إبّان فترة الحراك الشعبي في السنوات الماضية)، يبرز القصور الفاضح في ثقافة المقاومة المدنية، حيث يطغى الخطاب الانتخابي-الفئوي على الخطاب المدني-الجامع، وتطغى الخطب الارتجالية الفارغة على الرؤى المدروسة وبعيدة المدى، وتطغى التصرفات العنترية والصبيانية على التحلّي بروح المسؤولية وتوخّي الحذر.
إنّ من شأن تأصيل ثقافة المقاومة المدنية إتاحة الفرصة لنا جميعا في معرفة الخيارت الممكنة في كلّ مرحلة من مراحل الصراع السياسي، كما من شأنها أيضا الإسهام في إدراكنا حقيقة أن مقاومة الانفراد بالسلطة لا تقتصر على مسيرات شعبية بزعامة وجوه نيابية، ولعلّ ما يميّز المقاومة المدنية هو قدرتها على ابتكار أشكال مختلفة من المقاومة السلمية، والتاريخ السياسي العالمي مليء بنماذج ناجحة وخليقة بالإعجاب، كما أنّ قوة المقاومة المدنية تكمن في قدرتها على اتخاذ استراتيجية مناقضة لاستراتيجية السلطة، فإذا كانت السلطة تفرّق لتسود، فإنّ المقاومة المدنية تجمع ليدوم الوطن!
بالرغم من انسداد أفق الإصلاح السياسي، وبالرغم من حالة الإحباط التي يعانيها، مع الأسف، الشباب قبل الشيوخ، فإنّ الظروف الراهنة تبدو ملائمة للبدء بمحاولة إرساء ثقافة المقاومة المدنية، فتدهور الأوضاع في ظل الانفراد بالسلطة يكرّس أسباب المقاومة المدنية، وصورية مجالس "الصوت الواحد" تسهم في إبراز أهمية العمل السياسي خارج نطاق المؤسسات التقليدية، ولجوء الأحزاب الدينية إلى خيار المشاركة يعزز من التأكيد على الوجه المدني لثقافة المقاومة والنأي بالدين عن المكاسب السياسية.
أخيرا، ينبغي التذكير بتلك العبارة الحكيمة المكتوبة على جدار قصر السيف: "لو دامت لغيرك، ما اتصلت إليك"، وهي عبارة تدلّ على حقيقة أنّ الديمومة ليست من سمات الظروف السياسية، وإذا وضعنا هذه الحقيقة في الحسبان فإنّ ما نزرع اليوم من بذور المقاومة المدنية نحصد ثماره غدا، وأهم ثمرة هي تلك التي ستتيح للشعب قدرة تفاوضية من شأنها ضمان المطالب الديمقراطية في مقابل ترجيح توازنات السلطة في المستقبل، وبطبيعة الحال لن تتوافر هذه القدرة التفاوضية في ظلّ استمرار الروح الانهزامية، ولهذا فإنّ المقاومة المدنية تذهب بنا إلى ما هو أبعد من مجرد مقاطعة الانتخابات، وإلى ما هو أجدى من المشاركة فيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق