القانون، بمعناه الواسع، هو اتفاق جماعي على تنظيم الوجود المشترك لمصالح فردية متناقضة، والقانون بهذا المعنى يشير إلى اختراع بشري يطمح إلى ضمان الانتقال بالإنسان من الحالة البربرية إلى الحالة المدنية، وبذلك يكون القانون امتدادا منطقيا للفوارق الطبيعية بين الإنسان والحيوان، مثل العقل واللغة، فقد استغلّ الإنسان هذه الفوارق كي يضيف إليها فارقا آخر، وهو القانون، ولا يسعفنا علم الأنثروبولوجيا في تحديد زمن ظهور فكرة القانون في حياة الشعوب البدائية، ولكن ما نعرفه هو أن الانتقال إلى الحالة المدنية لم يكن انتقالا سَلِساً، فأغلب القوانين البدائية تتضمّن عقوبات وحشية فيها تكريس للحالة البربرية، كما أن بعض القوانين الحديثة تحتوي على بقايا لتلك العقوبات، ومهما يكن من أمر فإنّ ما يعنينا في هذا المقال هو الوقوف على بعض مظاهر العلاقة بين القانون والمدنيّة، ونريد على وجه التحديد إثبات حقيقة أن كليهما لا يقتضي الآخر.
لنفترض أنّ إحدى الدول، ولسبب ما، قررت تعطيل القانون ليوم واحد فقط، بحيث لا يخضع أي سلوك إلى عاقبة القانون مهما بلغ هذا السلوك من وحشية، ولنتساءل في هذه الحالة: هل غياب القانون يعني بالضرورة غياب المدنية؟ لنضع السؤال نفسه بصياغة أخرى: هل وجود المدنية يعني بالضرورة وجود القانون؟ بوسعنا أن نجزم أن تعطيل القانون ليوم واحد فقط سيزيد من نسبة الجريمة في ذلك اليوم تحديدا، ولكن في المقابل، ليس بوسعنا أن نجزم أن الجميع سيطلق العنان للحيوان القابع في جوفه في ذلك اليوم الذي يغيب فيه القانون، فهناك مَن تعصمه إنسانيته وشرفه ونزاهته عن ارتكاب جرائم القتل والسرقة وكلّ ما شأنه التعدي على الآخرين، ولهذا فإن غياب القانون لا يقتضي بالضرورة غياب الحسّ المدني.
هل هناك معنى لوجود إشارة مرورية في جزيرة يقطنها شخص واحد فقط؟ دعنا نفترض أن مثل هذا الشخص فقد عقله وقرّر فعلا الالتزام بقاعدة الوقوف أمام اللون الأحمر لتلك الإشارة تماشيا مع قانون المرور في كل بقاع الأرض، ثم دعنا نتساءل: هل التزام هذا الشخص بقانون المرور يجعل منه تلقائيا إنسانا مدنيّا؟ لا معنى لوجود قانون في جزيرة يسكنها شخص واحد فقط، ولا معنى للحسّ المدني للسبب ذاته، ولكن الاختلاف هنا يكمن في حقيقة أن الوجود النظري للقانون ممكن في جميع الأحوال، في حين أنّ المدنية ذات طبيعة أخلاقية بالضرورة، فهي ليست ممكنة على الإطلاق إلاّ في ظل وجود مجتمع لا يقل عدد أفراده عن اثنين، ولهذا فإن وجود القانون لا يقتضي بالضرورة وجود الحسّ المدني.
المدنية، باختصار، تشير إلى إحساس عميق بكلّ ما هو إنساني وعادل ونزيه في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهي تستعين بالعقل قبل الاستعانة بالقانون في تنظيم تلك العلاقة، فالقانون لا يضمن عدم وقوع الجريمة، بل يكتفي فقط بجعل فكرة ارتكابها أقلّ جاذبية، في حين أنّ المدنيّة تجعل من مجردّ التفكير في تبرير الإجرام جريمة في حدّ ذاتها.
هناك تعليقان (2):
الله بالخير دكتور ،،، مقال جميل ولي الملاحظتين التاليتين:
1- ذكرت في مقالك بأن غياب القانون لا يقتضي بالضرورة غياب الحس المدني وأنا هنا أتفق معك في حالة واحد وهي أن يغيب القانون ليوم أو يومين فقك، أي لفترة وجيزة، وأما غيابه لفترات طويلة فإن الحس المدني سيتلاشى وسنعود لعالم بلا قوانين. زمثال على ما أقول هو أننا في الكويت للأسف في كل يوم يمضي نخسر وتخسر الكويت مواطنا شريفا نزيها لا يرشي ولا يخون الأمانة ولا يتعدّى ع المال العام نظرا لتفشّي مثل هذه الظواهر حتى أصبحت هي القاعدة وغيرها استثناء.
2- لم أفهم الرابط بين ما كتبته اليوم وبين الوضع القائم في الكويت وما الإسقاط الذي قصدته.
شكرا
أهلا بك وشكرا لك.
1. أنا أيضا اتفق معك في أن استمرار غياب القانون سياهم على المدى الطويل في تلاشي الحس المدني لدى الأفراد، ولكن ليس لأن الجميع سيفقد حسه المدني، بل لأن فرصة وجود القلة ممن آثر الاحتفاظ بهذا الحس ستكون معدومة في ظلّ عدم وجود قانون يردع أولئك الذين أطلقوا العنان لنزعتهم البربرية، وهذا هو مع الأسف قانون الغاب: القوي يسود والضعيف ينقرض.
2. لم تكن هناك نية "إسقاط"، ولكن كلّ إيجابي يصبح تلقائيا ذا صلة بمجتمع غارق في السلبيات، ولهذا فإن الدعوة إلى الحس المدني لابد وأن تكون وثيقة الاتصال بأي مجتمع يعاني تلاشي هذا الحس.
فهد
إرسال تعليق