السياسة فنون، أشهرها فنّ الممكن، وأصعبها فنّ المستحيل، وأبشعها فنّ الخضوع، وهي فنّ الممكن فقط عندما يكون الحوار بين الفُرقاء حوار الندّ للندّ، وفي غياب عنصر الندّية ليس للطرف الضعيف سوى أن يتمرّس بفنّ المستحيل أو أن يُمارس فنّ الخضوع، وأمّا الطرف القوي فيكفيه أن يلوّح بعصاه من بعيد!
هناك، مع الأسف، خلط شائع بين «فنّ الممكن» و«فنّ الخضوع»، فإلى جانب الاختلاف بينهما من حيث مدى توافر عنصر النديّة، لا يستقيم فنّ الممكن إلاّ في ظلّ فضاء سياسي يتيح المناورة بين سقف أعلى للمطالب وحدّ أدنى للتنازلات، في حين أنّ فنّ الخضوع ينمو في بيئة سياسية تشجع المنافسة على بلوغ الحدّ الأعلى من الإذعان، وتتكشّف مظاهر الخلط بين الاثنين من خلال اللغة على وجه الخصوص، كمثل أن نقول مثلا: «من الضروري الاحتكام إلى ميزان العقل والإنصات لصوت الحكمة وإدراك خصوصية الوضع وموازين القوى، فالسياسة هي فنّ الممكن»! وهي عبارة تعني في واقع الأمر: «من الضروري عدم اللعب بالنار وطاعة أولياء الأمور ومعرفة حجمنا الطبيعي، فالسياسة هي فنّ الخضوع»! في قاموس «فنّ الخضوع» قدر كبير من خداع النفس والآخرين، حيث الرضوخ دلالة على القوة، والنفاق دلالة على حبّ الوطن، والتماهي مع الواقع دلالة على بلوغ أرقى درجات الحكمة.
إجادة فنّ الخضوع لها «مزايا» كثيرة أيضا، منها القدرة على الاستمرار بأقل الخسائر المادية (وبأقصى الخسائر المعنوية، لكن هذه لا تعدّ خسائر في قاموس فنّ الخضوع)، ومنها فرصة الصعود السريع على السلّم الاجتماعي، ومنها الاستفادة من حرية التعبير ذات الاتجاه الواحد، وكل هذه المزايا لا تتطلّب سوى مهارة الإكثار من كلمة «نعم» من دون تردد وبأيّ ثمن!
ماذا عن فنّ المستحيل؟ هو فنّ يُجبَرُ على التمرّس به مَن تأبى نفوسهم ممارسة فنّ الخضوع، ولهذا فإنّ «المستحيل» هنا لا يُشير إلى استحالة تحقيق الغايات والطموحات، فهذه قد تكون صعبة المنال لكنها ليست مستحيلة، بل قد تكون مستحيلة الآن لكن ليس إلى الأبد، وإنما المقصود بالاستحالة هو الرفض القاطع للخنوع بكلّ أشكاله، ولهذا فإنّ مَن يُجيدون فنّ المستحيل لا يجيدون الانصياع، فهم يُدركون جيدا أنّ الطريق إلى الحرية لا يمرّ ببوّابة العبودية، كما أنهم لا يجيدون النفاق، فهم يُدركون أيضا أنّ التكيّف مع المصاعب لا يأتي على حساب الكرامة، وأنّ النفوس المنهزمة لا تبني مستقبلا أفضل!
«ما مُناسبة هذا الحديث؟»، يسألني الرقيب فأجيب: ليس له مناسبة إلّا بالقدر الذي جعل منك رقيبا على ما أكتب، ولك أن تعبث بهذه السطور كما تشاء، لكن اترك لي، أرجوك، ما بين السطور!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق