ما زال تيار "الإسلام السياسي" يجيد القيام بدور "الضحية"، ويبدو أنّه نجح نجاحا منقطع النظير في كسب تعاطف المتعاطفين مع حالة "المظلومية" التي يعيشها هذا التيار، فالصورة التي في أذهان الكثيرين تشير إلى تيار تخلّى عن خيار العنف لينخرط في العمل السياسي السلمي، وبمجرّد وصوله إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، تثور ثائرة "أدعياء الديمقراطية"، فلا يعترفون بنتيجة جاءت على غير ما يشتهون، ثم تُدبّر المكائد ضد هذا التيار بغرض الإطاحة به والانقلاب عليه، حسدا وحقدا وغيظا من نجاحه!
إنّ أول ما يلفت الانتباه في هذه الصورة الرومانسية حول "الإسلام السياسي" هو ابتذالها المثير للشفقة، فهي صورة تستند إلى العاطفة لحشد المؤيدين من جانب، ولتفسير سلوك المعارضين من جانب آخر، والابتذال سلوك لا يتطلّب جهدا أكثر من إثارة الغرائز، وهو لذلك ابتذال منسجم مع تيّار سياسي لا يحتاج إلى أكثر من الاستفادة من البنية الثقافية الممتدّة لقرون طويلة كي يحظى بالشعبية المطلوبة.
هناك تفسير أقلّ ابتذالا وأكثر منطقية لاعتراض المعترضين على وصول أي تيار إسلامي إلى سدة الحكم، وهو أنّ التمييز بين الناس من حيث معتقداتهم لا يتيح إمكانية التعايش السلمي والعادل بين أفراد المجتمع الواحد، وكلّ تيار إسلامي جدير بهذا الاسم يميّز بين الناس من حيث معتقداتهم، ولهذا فإنّ التعايش السلمي والعادل بين أفراد المجتمع الواحد غير ممكن في ظلّ أيّ تيار إسلامي.
بالطبع، هناك من يستشهد بتاريخ الحضارة الإسلامية للدلالة على إمكانية التعايش السلمي والعادل بين مختلف الأديان والمذاهب، ولكن شتّان بين سلمية التعايش المستمدة من عدالة القانون وتلك المستمدة من عدالة المنتصر، كما أنّ تعددية المجتمع الحديث لا تقتصر على الأديان والمذاهب، والعدالة بمفهوهما الحديث لا تنحصر في القاسم الديني بين فئات اجتماعية، بل هي عدالة تستند إلى القاسم المشترك بين جميع أفراد المجتمع، ونعني به القاسم الإنساني، وإذا كان لنا أن نتخيل وجود تيار إسلامي يبلغ من التسامح حدا بحيث لا يفرّق بين البشر من حيث قربهم أو بعدهم عن "دين الدولة"، فإنّه في هذه الحالة لا معنى لوصف مثل هذا التيار بالإسلامي!
في بلد مثل الكويت، حيث نشهد الاحتقان الديني بين المتطرفين في كلا الجانبين، يبدو السؤال التالي مستحقاً: إذا كان وجود مثل هذا الاحتقان الطائفي ممكنا حتى في ظلّ تساوي أفراد الطائفتين أمام القانون، فكيف سيكون مصير الطائفة التي يدفعها حظها العاثر في المستقبل إلى أن تكون خاضعة خضوعا تاماً إلى سلطة المتطرفين في الطائفة الأخرى؟ إنّ الحُكم المدني هو الوحيد القادر على استيعاب جميع أفراد المجتمع الواحد، ليس لأنه حُكم يخلو من عيوب، وليس لأنه حُكم عادل بالضرورة، بل لأنه يضمن على الأقل حقّ الوجود للجميع من دون انتقاص لحقوقهم التي يستمدونها من كونهم بشراً، لا أكثر ولا أقلّ، وإذا كان لا بدّ من مجاراة الإسلاميين في رومانسيتهم، فلا ضير أن نقول إنّ القانون الوضعي أشبه بالشمس التي تشرق على الجميع، فلا تفرّق بينهم من حيث الدين أو الجنس أو الأصل، ولعلّ في نكران هذه الحقيقة يكمن أحد أسباب نعت الإسلاميين بالظلاميين!