هناك ثلاثة مواقف بارزة من قضية الأصالة والمعاصرة في الثقافة العربية الإسلامية، فأنصار الأصالة في خصومة دائمة مع الحاضر ويرون الخلاص في العودة إلى الجذور، وأنصار المعاصرة في خصومة دائمة مع الماضي ويرون الخلاص في بتر تلك الجذور، وأمّا أنصار الوسطيّة فمؤمنون بإمكانية الجمع بين القديم والحديث بحيث لا يمنع الحفاظ على جذور الماضي من قطف ثمار الحاضر، لكن لا يبدو أنّ أيّا من هذه المواقف الثلاثة يُشكّل الموقف الأمثل من قضية الأصالة والمعاصرة، كما لا يبدو أننا أمام قضية تقوم على افتراض صحيح، وهذه هي النقطة التي نريد أن نتناولها من خلال هذا المقال.
قوام كلّ ثقافة عبارة عن وسيلة اتصال ومصدر معرفي، وقد جرت العادة على النظر إلى اللغة العربية والتراث الإسلامي بوصفهما قوام الثقافة العربية الإسلامية، الأول كوسيلة اتصال، والثاني كمصدر للمعرفة، وعندما يدور الحديث في ثقافتنا عن قضية الأصالة والمعاصرة، فإن السؤال الجوهري يشير إلى مدى توافق اللغة العربية والتراث الإسلامي مع مقتضيات الزمن الحاضر، وهو سؤال يقوم على افتراض ضمني مفاده أنّ بقاء الهويات الثقافية مرهون بثبات وسائل الاتصال ومصادر المعرفة، وهذا افتراض ينافي الواقع، فالثقافة الغربية المسيحية ما زالت تشكّل الهوية الثقافية لملايين البشر بالرغم من انقراض اللغة اللاتينية كوسيلة اتصال من جهة، وانحسار التراث المسيحي كمصدر للمعرفة من جهة أخرى.
إنّ الثفافة التي تجمع بين الإنسان الخليجي والإنسان المغاربي، مثلا، ليست مرهونة ببقاء اللغة العربية، إذْ ليست الفصحى هي لغتنا الأم، كما أنّ هناك العديد من العرب ممن لا يدين بالإسلام، ومع ذلك فإننا جميعا، من المحيط إلى الخليج، ننتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، ليس لأننا نتحدث الفصحى، وليس لأننا ندين بالإسلام، بل لأننا نتقاسم تاريخا من الانتصارات والهزائم، ومن الحقائق والأساطير، ومن العادات والتقاليد، وإذا كانت الفصحى هي المنبع، فإنه منبع ما فتئ يفيض أنهارا من لغات ولهجات، وإذا كان الإسلام هو مصدر المعرفة، فإنّ البحث عن مصادر أخرى لا يلغي هويتنا الثقافية بوصفها إسلامية، فالإسلام يبقى تراثا إنسانيا بصرف النظر عن قيمته الأبستمولوجية، والتراث مثل الأبوّة، فلا أحد بمقدوره أن يختار أباه.
اللاعقلانية هي العامل المشترك بين المواقف المتباينة من الثقافة العربية الإسلامية، فأنصار الأصالة لا يعترفون بالعقل كأداة معرفية ولا يقبلون بالتطوّر الطبيعي للغة العربية، وأنصار المعاصرة لا يعترفون بالتراث كقيمة حضارية ولا يحفلون بالفصحى كقيمة ثقافية، وأمّا أنصار الوسطية فجعلوا الأخذ بأسباب العقل مشروطا بعدم نقد مصادر المعرفة في الدين الإسلامي، وبذلك أصبحت الوسطية مجرّد محاولة توافقية غير مجدية من الناحية العملية.
إلى جانب غياب العقلانية، هناك أيضا غياب الجانب الإنساني في التعاطي مع الثقافة العربية الإسلامية، فأنصار الأصالة اعتادوا تقسيم البشر إلى مراتب بحسب معتقداتهم الدينية، وأنصار المعاصرة استمرؤوا استيراد أبشع مظاهر الحضارة الغربية وأشدّها انتقاصا من قيمة الإنسان، وأمّا الوسطيّون فما زالوا يصرون على إمكانية الجمع بين التناقضات، فعقوبة الإعدام لا تتعارض مع حقوق الإنسان، والسوق الحرّة لا تتعارض مع العدالة الاجتماعية، وتكميم الأفواه لا يتعارض مع حرية التعبير!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق