الديمقراطية تعني اصطلاحا حُكم الشعب، وتعني نظريا اختيار الشعب مَن يحكمه، وتعني عمليا وصول مَن فاز بأغلبية أصوات الناخبين إلى سدة الحُكم، وبذلك نصل إلى حقيقتين: الحقيقة الأولى هي أن الديمقراطية مجرد وسيلة لتحديد هوية مَن يحكم، والحقيقة الثانية هي أنّ هناك دائما أقلية غير مقتنعة بهوية مَن يحكم، لكنها مُلزمة مع ذلك بقبول نتيجة صندوق الاقتراع، وعند هذه النقطة تحديدا ينتهي اهتمام «الإخوان المسلمين» بالنظام الديمقراطي، فما يعنيهم هو كيفية الوصول إلى الحُكم، وأمّا كيفية الحُكم فقد تكفلت الأيديولوجية الدينية بها إلى أدق التفاصيل!
لا اعتراض على وصول «الإخوان» إلى السلطة عن طريق الديمقراطية، ولكنّ الاعتراض كلّ الاعتراض على ما يصنعه «الإخوان» بالديمقراطية بعد وصولهم إلى السلطة، ولهذا الاعتراض ما يبرّره، ذلك أنّ «الإخوان» لا يرون في صندوق الاقتراع مجرّد وسيلة لتحديد هوية الحاكم، بل يرون فيه أيضا تفويضاً مطلقاً بإدارة الحُكم بالطريقة التي يرونها مناسبة، ومن ضمنها إخضاع الجميع لشروط التعايش التي تحددها الأيديولوجية الدينية، وبذلك لا يتعيّن على الأقلية الرضوخ إلى نتيجة الصندوق فحسب، بل يتعيّن عليها أيضا إخضاع أسلوب حياتها وطريقة تفكيرها إلى إرادة الأغلبية، وقد سبق أن ذكرنا في مقال سابق أنّ مشكلة كل التيارات الشمولية، ومن ضمنها التيارات الإسلامية، هي اعتقادها أنّ هوية الحاكم تحدّد طريقة الحُكم، ولهذا السبب تحديداً يتمسك أنصار هذه التيارات الشمولية بمفهوم الديمقراطية المطلقة دون أدنى اعتبار لحقيقة أن الديمقراطية التي لا يكبح جماحها سوى «شرعية الصندوق» ليست سوى وجه آخر من وجوه الدكتاتورية.
كتب «الغنوشي» يقول: «ما ينبغي أن تصل بالبعض الروح العدمية إلى حدّ تفضيل نظام دكتاتوري زُهداً في ديمقراطية ناقصة»، وقد وجد البعض في هذا الكلام اعترافا ضمنيا بوجود قصور في الديمقراطية على الطريقة الإخوانية، ولكنه مع ذلك اعتراف ناقص، فالتاريخ الحديث يشهد على حقيقة أنّ الدكتاتور الذي يصل إلى السلطة عن طريق «ديمقراطية ناقصة» أسوأ بكثير من ذلك الذي يصل على ظهر دبابة، كما أن المشكلة ليست في تفضيل دكتاتورية عسكرية على دكتاتورية ثيوقراطية، بل في تناوب كلتيهما على حُكم شعوب المنطقة رغما عنها، تارة عن طريق استثمار غريزة الخوف، وتارة عن طريق استثمار آفة الجهل.
الديمقراطية هي مجرّد حلّ لمشكلة اتخاذ القرار السياسي في بيئة تتسم بالتعددية، لكن ليس من شأن الديمقراطية الحفاظ على تلك التعددية، ولهذا لا بدّ من توافر شروط من دونها لا تنجح الديمقراطية، مثل سيادة القانون، وفصل السلطات، وضمان الحقوق الأساسية المتعلقة بحريات التعبير والاعتقاد، وهي شروط تتعارض في مجملها مع حدود التعايش التي تفرضها الأيديولوجية الدينية، كما أنها شروط دخيلة على ثقافتنا العربية-الإسلامية، لكن أليست الديمقراطية ذاتها دخيلة على ثقافتنا؟ ألم توصف بالكفر من قبل أولئك الذين ما لبثوا أن وجدوا لهم فيها مآرب آخرى؟
سبق أن أكد «إردوغان» أنّ الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، وسبقه إلى تأكيد النقطة ذاتها «الغنوشي» و«القرضاوي» وغيرهما، وهم بلا شك محقون في ذلك، فالديمقراطية التي يعنون هي تلك المحرومة من شروط نجاحها، هي «ديمقراطية الصندوق» التي تضمن للرابح وحده تقرير مستقبل قواعد اللعبة السياسية، والانسجام مع هذا النوع من الديمقراطية المنفلتة لا يقتصر على الإسلام، بل يتعداه إلى النازية والفاشية وغيرهما من الأيديولوجيات الشمولية، فالشمولية لا تصعد إلا لتبقى، ولا تبقى إلا لتسود!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق