وصلني عدد من الأسئلة التي تفضّل بعض القُراء بإرسالها إليّ، وهي أسئلة تدور في مجملها حول مقالاتي الأخيرة، وتحديدا حول "الإسلام السياسي"، وقد وجدت أنّ من المناسب الإجابة عن بعضها هنا، ولم يجبرني على انتقاء بعض هذه الأسئلة سوى ضيق المساحة هنا، كما ألتمس العذر من القارئ في التوقف عن الكتابة لفترة قد تطول لأسباب خارجة عن إرادتي.
لماذا لا تستطيع أن تكون محايدا في مقالاتك عند التطرّق لموضوع "الإسلام السياسي"؟
لست أدري ما المقصود بمعنى "الحياد" في هذا السؤال، ولكن ما أدريه هو أنّي بدأت ألاحظ أمرا يسترعي الانتباه، فعندما كتبنا أنا وغيري قبل سنوات عدة مقالات دفاعا عن حركة "حماس" في مقاومتها للاحتلال، تقاطرت الرسائل شكرا وثناء على "موضوعية الطرح"، ثم ما لبثنا أن أصبحنا غير محايدين في أعين البعض بعد أحداث مصر، ولهذا يبدو لي أن مفهوم "الحياد" على الطريقة "الإخوانية" يعني أن تكون معي على طول الخط، وإلا فإنك تخلع ثوب الحياد! ثم إن الحياد موقف لا يتعلق بأطراف الصراع، بل بموضوعه، فالوقوف موقف الحياد من موضوع معين يعني رفض اتخاذ موقف من هذا الموضوع، وعندما يتعلق الأمر بمشروع فاشي باسم الدين، فإن الحياد في هذه الحالة يعبّر عن موقف لا أخلاقي.
إذا كانت الديمقراطية على الطريقة الإسلامية لا تعجبك، فهل تعجبك الديمقراطية على الطريقة العلمانية؟
ليست المسألة مسألة إعجاب بل اقتناع، فالديمقراطية متعلقة بهوية الحاكم، والعلمانية مرتبطة بكيفية الحُكم، وإذا كانت الديمقراطية تضمن الوصول السِلمي إلى السلطة، فإنّ العلمانية تحاول الإبقاء على سلمية المجتمع الخاضع لتلك السلطة، ومن المؤسف أن يتعرّض مفهوم "العلمانية" إلى عملية تشويه وصلت إلى الحدّ الذي يعتقد فيه الكثيرون باستحالة أن يكون المرء مُسلما وعلمانيا في الوقت نفسه، ذلك أنّ العلمانية ليست أيديولوجية منافسة للدين، بل مجرّد خيار عقلاني حول كيفية حُكم مجتمع متعددّ الطوائف بطريقة تنأى به عن الصراع الطائفي. لنفترض أنك وصلت إلى مطار حاملا معك خمس حقائب، ثلاث لونها أحمر، واثنتان لونهما أسود، ثم رأيت أمامك بوابتين للخروج: إحداها مكتوب عليها "مسموح بعبور الحقائب الحمراء فقط"، والبوابة الأخرى مكتوب عليها "مسموح بعبور كلّ الحقائب"، فأيّ بوابة تفضّل الخروج منها؟ الأمر نفسه ينطبق على مشكلة تنظيم مجتمع متعدد المذاهب والمشارب، فالعلمانية تقول: ليحافظ الجميع على دينه أو أي معتقد يحلو له، لكن دعونا نستخدم العقل في تحديد قائمة الحقوق والواجبات التي تسمح في تعايش الجميع على بقعة جغرافية محددة، ومن دون أن تفرض فئة منا رؤيتها للدين على الجميع، وعلى النقيض من ذلك، تسعى الأيديولوجية الدينية إلى إقامة حُكم لا يتفق الجميع على ماهيته، فالطوائف الدينية تتقاتل حتى قبل أن تصل إلى الحُكم، فكيف لو وصلت إحداها إلى حيث تستطيع تقرير مصير الطوائف الأخرى؟ كما أنّ المساواة بين المواطنين مستحيلة في ظلّ رؤية دينية لا تهب الناس حقوقهم بوصفهم بشرا، ولا تفرض عليهم واجباتهم بوصفهم مواطنين، بل تقيس الحقوق والواجبات بمقياس البعد أو القرب من "دين الدولة"!
كيف بإمكانك أن تجزم باستحالة الإطاحة بحزب "العدالة والتنمية" عن طريق صندوق الاقتراع في الوقت الذي عانى فيه هذا الحزب في انتخابات يونيو من العام الماضي بعد فشله في الحصول على أغلبية برلمانية؟
لم أجزم باستحالة حدوث ذلك، بل أشرت إلى حقيقة أن الإطاحة الديمقراطية بالزعيم الأوحد باتت "شبه مستحيلة"، كما أنّ حزب "العدالة والتنمية" لم يعانِ معاناة ديمقراطية حقيقية منذ وصوله إلى السلطة قبل 14 عاما، وأما بخصوص انتخابات يونيو من العام الماضي، فقد اتهمت أقطاب المعارضة الرئيس بإفشال الجهود الرامية إلى تشكيل حكومة ائتلافية وتدبير "انقلاب مدني" من خلال دعوته إلى الإسراع بإجراء انتخابات جديدة، وهو ما تمّ فعلا ليحصد حزب الرئيس على الأغلبية البرلمانية مستفيدا من سوء الأوضاع الأمنية والنزعات القومية، بالإضافة أيضا إلى مساهمة شخص الرئيس في الدعاية الانتخابية البرلمانية، وهو أمر غير مسبوق في الديمقراطية التركية الحديثة التي طالما وقفت فيها الرئاسة موقف الحياد من الانتخابات البرلمانية، وهذا كله يدلل على حقيقة أن العبث بالديمقراطية بهذا الشكل يجعل من الإطاحة بالحزب الحاكم عن طريق صندوق الاقتراع أمرا شبه مستحيل.
كيف لنا أن نصدق من يدافع عن الديمقراطية ثم يقف مع "الانقلاب" على الشرعية في مصر؟
هذا سؤال استنكاري، والاستنكار هنا مشروع بشرط أن يصحّ النظر إلى مظاهرات "الثلاثين من يونيو" بوصفها انقلابا، وإذا كانت هناك مساحة للاختلاف في وجهات النظر حول وصف تلك الأحداث بالثورة، فإنّ وصفها بالانقلاب يفتقر إلى الدقة، ذلك أنّ أبرز ما يميز أي انقلاب هو عامل السرّية، لا أن يخرج الناس بمئات الآلاف إلى الشوارع مطالبين بتنحي الرئيس، ثم يحدد الجيش بعد ذلك مهلة على الهواء مباشرة لحث الرئيس على نزع فتيل الأزمة والدعوة إلى انتخابات مبكرة! ثم إنّ دفاعنا عن الديمقراطية يعني رفضنا "حُكم العسكر" بالقدر الذي نرفض فيه الديمقراطية على الطريقة "الإخوانية"، فالنظام الديمقراطي الحقيقي لا يسمح أساسا بأن يخوض حزب فاشي الانتخابات إلا بعد أن يتخلى عن فاشيته، ولكن ما زلنا – مع الاسف – عاجزين عن تعلّم الدرس الذي لم تتعلمه أوروبا إلا بعد أن عانت كوارث الحرب العالمية الثانية!