حول طبيعة المعرفة العلمية
فهد راشد المطيري
في منطقتنا العربية، حيث عدد دور العبادة أكبر بكثير من عدد المراكز العلمية، من المستهجن أن نسأل: ما هو الدين؟ لكن من الطبيعي جداً أن نسأل: ما هو العلم؟ لنتأمّل الجمل التالية، حيث ترد الإشارة إلى كلمة "العلم" في كل جملة على حدة:
(2) لا يخضع ما يسمى العلاج بالطاقة إلى شروط العلم.
(3) تحرص الدولة على دعم العلم.
(4) بإمكان العلم أن يعمّرَ الأرض أو أن يدمّرها!
في (1)، هناك إشارة إلى العلم بوصفه أداة معرفية تنطوي على قدر كبير من الجهد العقلي المُنظّم لحلّ مشكلة ما، في حين أن الإشارة في (2) هي إلى العلم بوصفه معيارا يحدّد ما ينبغي أن يندرج ضمن حصيلة الأفكار المقبولة والمدعومة بأدلة تجريبية. عندما ننتقل إلى (3)، فإن الإشارة هنا متعلقة بالعلم بوصفه مؤسسة اجتماعية لها أفرادها ومبانيها ومجلّاتها الدورية، والعلم بهذا المعنى لا يختلف عن باقي مؤسسات المجتمع المدني. أخيرا، يشير مفهوم العلم في (4) إلى قائمة من التطبيقات التقنية أو ما يعرف بتكنولوجيا العلم، وبذلك تنطوي الإشارة هنا على تطابق بين العلم من جهة، ونتاج هذا العلم من جهة أخرى. على ضوء هذه الاستخدامات المختلفة لكلمة "علم"، أصبح لدينا أربعة معان مختلفة لمفهوم العلم:
(*2) معيار معرفي يحدد ما هو مقبول من الناحية التجريبية.
(*3) مؤسسة اجتماعية ضمن مؤسسات المجتمع المدني.
(*4) قائمة من التطبيقات التقنية.
من الضروري عدم الخلط بين هذه المعاني المختلفة لمفهوم العلم، ولعلّ أغلب النقد الذي يُوجه للعلم يقع في شرك هذا الخلط، فالقول – مثلا – إنّ العلم جلب الهلاك لملايين الأرواح البشرية ينطوي على خلط بين معنى العلم في (*1) و (*4)، فالعلم بوصفه أداة معرفية مسؤول (ابستمولوجيا) عن إنتاج نوع محدد من المعرفة، في حين أنّ المسؤولية (الأخلاقية) تقع على عاتقنا عند التفكير بأوجه الاستفادة من تلك المعرفة.
لا تهدف القائمة أعلاه إلى حصر كل المعاني الدالة على مفهوم العلم، بل إنّ الهدف منها يقتصر فقط على التنبيه إلى وجود استخدامات متعددة لهذا المفهوم، كما لا ندّعي هنا أنّ الإحاطة بمعنى أي مفهوم يكفي لتحديد ماهيته، ومفهوم العلم ليس استثناءً من هذه القاعدة. لهذا، ولكي نتعرّف على ماهية العلم، لا بدّ لنا من التوقف عند هذا النوع من المعرفة والذي نسميه "معرفة علمية".
تكمن إحدى الوسائل للتعرف على طبيعة شيء ما في محاولة تحديد السمات التي يمتاز بها هذا الشيء، وهذه هي الوسيلة التي سنتّخذها هنا للتعرف على طبيعة المعرفة العلمية، حيث سنستعرض بعضا من أهم سمات هذا النوع من المعرفة، متوقّفين عند كل سمة تِباعاً.
أولى سمات المعرفة العلمية هي أنها معرفة تراكمية، أي أنها تزداد من حيث الكم مع مرور الزمن، فلا ريب في أنّ ما يعرفه اللاحقون يفوق بمراحل ما يعرفه السابقون، ولهذا فإنّ من الطبيعي القول إنّ الطلاب البارزين في أي ميدان من ميادين المعرفة العلمية في وقتنا الحاضر يفوقون الخوارزمي وابن الهيثم وجاليليو ونيوتن في درايتهم بعلوم الفيزياء والرياضيات والفلك وغيرها، ومن الملاحظ أنّ النقيض من ذلك ينطبق على المعرفة الدينية ذات الطبيعة التناقصية، حيث كمال المعرفة مرتبط بمدى القرب الزماني من مصدرها، وحيث يفوق ما يعرفه السابقون ما يعرفه اللاحقون، ولعلّ أهمّ ما يميز الطبيعة التراكمية للمعرفة العلمية هو إتاحة الفرصة أمامنا لطرح أسئلة لم يكن من المنطقي أن تخطر في بال السابقين، مثل: هل بلوتو كوكب أم مجرد كويكب؟ أو كم من الوقت يلزم للقضاء على مرض الإيدز؟ أو ما هي الدلائل على وجود ظاهرة الاحتباس الحراري؟
ثاني سمات المعرفة العلمية هي أنها معرفة نسبية، والنسبية هنا لها وجهان، أحدهما متعلق بمدى صحة المعرفة العلمية، والآخر مرتبط بمدى حجم هذه المعرفة، فمن جهة، المعرفة العلمية نسبية، بمعنى أنها ليست يقينية، إذ لا مكان في العلم لليقين المعرفي بصحة أي فكرة، وإنما تزداد درجة الاحتمال مع كل دليل إضافي يدعم صحة الفكرة، ومن دون أن نصل أبداً إلى درجة اليقين،وهذه هي الفكرة التي عبّر عنها الفيزيائي الأميركي الشهير ريتشارد فاينمان بقوله: " "لن يكون بوسعنا أبداً أن نكون على يقين من أننا على صواب، لكن بوسعنا أن نكون على يقين من أننا على خطأ"! من جهة أخرى، المعرفة العلمية نسبية، بمعنى أنها ليست تامة، فالعلم يكافح الجهل مع كل زيادة في مقدار التراكم المعرفي، لكن الجهل لا حدود له، وبالتالي من المنطقي أن تظل المعرفة العلمية منقوصة مهما تعاظمت، فالعلماء أبعد ما يكونون عن ادعاء امتلاك الكلمة الأخيرة!
عدم قدرتنا على التقين من صحة أي فكرة لا يعني عدم قدرتنا على تبنّي صحتها، وبالأخص عندما تكون هذه الفكرة مسنودة بأدلة، وهنا تكمن السمة الثالثة للمعرفة العلمية بوصفها معرفة تجريبية، بمعنى أنها معرفة متعلقة بمعطيات الواقع من جهة، وقابلة لاختبار مدى صحتها استناداً إلى نتائج التجربة من جهة أخرى، ومن الضروري هنا أن نتذكر بأن مفهوم التجربة يقتضي منطقيا قدراً من الشك في صحة الفكرة الخاضعة إلى التجربة، وإلاّ لما كان هناك معنى لإجراء التجربة من الأساس، كما أن من الضروري أيضا ملاحظة دور الشك الإيجابي في تعزيز المعرفة العلمية من جانب، والتذكير بنسبيتها من جانب آخر، ذلك أن الشك يقي من فرط السذاجة المتمثلة بقبول صحة فكرة قبل خضوعها للاختبار، ويقي كذلك من فرط الثقة المتمثلة بالتقيّن من صحة فكرة حتى بعد اجتيازها للاختبار.
السمة الرابعة للمعرفة العلمية تشير إلى كونها معرفة موضوعية، أي أنها معرفة لا ترتكز على أهواء شخصية أو اعتقادات روحية، بل على حقائق ملموسة، والموضوعية بهذا المعنى لا تستمد قوتها من إخلاص العلماء ونزاهتهم عند قيامهم بالبحث العلمي، بل هي مستمدة من طبيعة البحث العلمي نفسه، ذلك أنه بحث يتصف بقدر من الشفافية بحيث يستطيع الجميع التحقق من نتائج التجربة من خلال إعادة إجرائها، وهذا ما يسميه كارل بوبر "الشخصية العامة للعلم"، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الخاصية تؤدي دور صمام الأمان ضد القصور الأخلاقي للنفس البشرية في ميدان العلم، فهي أشبه بإنذار لكل باحث، ومفاد هذا الإنذار رسالة تحذير، من قبيل: "لا تعبث بنتائج البحث، لأنك ستُكتشف إنْ لم تكن نزيها"!
نأتي أخيرا إلى السمة الخامسة للمعرفة العلمية، وهي أنها معرفة منهجية، وذلك بوصفها نتاج طريقة تتصف بالتنظيم والدقة، وما يجعل هذه الطريقة منظمة هو استفادة العلم من لغة المنطق، وما يجعلها دقيقة هو استفادة العلم من لغة الرياضيات، ولهذا فإن هذه الطريقة هي أفضل الطرق المتاحة لتراكم المعرفة العلمية، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن الطريق إلى الحقيقة لا يمرّ إلا من بوابة العلم، ولكنه يعني أن الطريق إلى اختبار مدى صحة هذه الحقيقة لا يمرّ إلا من بوابة العلم، أو كما يقول فيلسوف العلم الأرجنتيني ماريو بُنخي: "العلم لا يحتكر الحقيقة، ولكنه يحتكر الوسائل التي من خلالها نفحص مدى صحة تلك الحقيقة".
من المعيب ألاّ يتجاوز عدد الكتب المترجمة إلى العربية، والتي تتناول ميدان فلسفة العلم، أصابع اليد الواحدة، ولعلّ هذه الحقيقة المؤلمة تقف وراء ظاهرة سوء الفهم لمبادئ العلم والتوجس من نتائجه، ومهما يكن من أمر فإنّ إحداث ثورة في التفكيرسيبقى بعيد المنال حتى ينال العلمُ منّا ما يستحق من إعجاب وتقدير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق