قبل أيام قليلة، حلّت الذكرى 28 على احتلال الكويت،
وكما هي العادة في كل عام، غصّت الصحف المحلية ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي
بذكريات لم ولن يمحوها الزمن، فكلّ كوتيية أو كويتي عاصر تلك الفترة لديه ما يقوله،
ومن حقنا كشعب أن نُذكّر شعوب العالم أجمع بتلك الفجيعة، وهي فجيعة حقيقية قوامها
شعور عميق بالظلم، فكيف لا يشعر بالظلم من سُلبت هويته بعد أنْ تمّ شطب وطنه من
الخارطة؟
بطبيعة الحال، لسنا في بلد ديمقراطي كي نتذكّر معاناة
الاحتلال من دون قيود على حرية التعبير، فعلى سبيل المثال، لم يعد من
"اللائق" التطرّق إلى مسؤولية القيادة السياسية آنذاك عن "كل
التبعات التي ترتبت على الغزو العراقي" بحسب ما جاء في تقرير "لجنة تقصي
الحقائق عن الغزو العراقي الغاشم"، وهو التقرير الذي أشار إلى أنّ "التقصير
في مواجهة العدوان العراقي يقع بالدرجة الأولى على عاتق السلطة التنفيذية"،
معللا ذلك بأسباب عدة، جاء من بينها أنّ السلطة التنفيذية " قلّلت
من الخطر الماثل أمام الكويت واستبعدت حتى التجهيز والإعداد الدفاعي والعسكري،
وذكرت تقليلا للخطر بأنه سحابة صيف".
لكن إذا كُنا عاجزين عن الاهتمام بذكرى الاحتلال
بطريقة أكثر ديمقراطية، فينبغي لنا على الأقلّ ألّا نكون عاجزين عن الاهتمام بها
بطريقة أكثر إنسانية، ففي نهاية المطاف نحن في بلد تصفه الحكومة ووسائل الإعلام
المحلية بأنه "بلد الإنسانية"، وبالنظر إلى الاحتفاء الكبير من قبل
القطاع الخاص وجمعيات النفع العام بمناسبة "حصول الكويت على هذا اللقب"،
لا يكون أمامنا سوى التسليم بأنّ عددا لا بأس به من الكويتيين متفقون مع الحكومة
في أننا نعيش في "بلد الإنسانية"، وإذا كان هذا هو واقع الحال، فإنّ
ذكرى الاحتلال كان ينبغي لها أن تتخذ شكلا آخر، أكثر صدقا وأقلّ نفاقا!
على سبيل المثال، كيف لنا أن نستذكر كارثة الاحتلال في
الوقت الذي انتقلنا فيه من دور المظلوم إلى دور الظالم؟ لنضع السؤال نفسه بصيغة
أكثر تحديدا: من أين لنا أن نكون مُتسقين أخلاقيا مع أنفسنا عندما نستذكر معاناتنا
تحت وطأة الاحتلال من دون أن نتذكّر المعاناة المستمرّة لعشرات الآلاف من عديمي
الجنسية أو "البدون" تحت وطأة حكوماتنا المتعاقبة؟ في كلتا الحالتين
هناك ظلم، ولن يُلغي مقدار التفاوت في الظلم بينهما من حقيقة نفاقنا في التعامل مع
الألم الإنساني! ألسنا نعيب على إسرائيل نفاقها الأخلاقي والمتمثل باهتمامها بذكرى
"المحرقة" في الوقت الذي انتقل فيه الإسرائيلي من دور المظلوم إلى دور
الظالم؟ ماذا لو احتجّ مستوطن إسرائيلي بقوله: هذه مقارنة غير متكافئة، فما فعله
النازيون بنا لا يُقارن بما تفعله حكوماتنا بالفلسطينيين؟ تهافت هذه الحجة لا يحتاج
إلى التحقق من مدى تكافؤ المقارنة في علاقة الظلم بين الحالتين، بل يحتاج فقط إلى التذكير
بأنّ الظلم، مهما تفاوتت درجاته، يبقى ظلما مع ذلك، والاتساق في الموقف الأخلاقي
يقتضي أن نُدين الظلم على طول الخط، لا أنْ نغضّ الطرف عن الحالات التي نكون فيها
ظالمين.
لكن هل نحن نعترف أصلا بمعاناة إخواننا
"البدون"؟ هذا سؤال يفترض وجود معاناة، وليس أيسر من دعم صحة هذا
الافتراض بالعديد من الأدلة، ولن نتحدّث عن الاضطهاد الحكومي الممنهج لفئة
"البدون" منذ النصف الثاني من عقد الثمانينيات، بل لن نتحدّث عن القمع
الوحشي الذي تعرضوا له في مظاهراتهم قبل بضع سنوات، بل سنكتفي فقط بالإجراءات
اللاإنسانية التي كانوا وما زالوا يتعرضون لها على يد ما يُسمى "الجهاز
المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية"، وهو الجهاز الذي أضحى
دولة داخل الدولة بعد أن خوّل له مرسوم إنشائه إجبار كل مؤسسات الدولة على التعاون
معه!
قبل ثلاث سنوات، نقلت صحيفة "الراي" ما جاء
في لقاء تلفزيوني أجرته إحدى القنوات مع اللواء مازن الجراح، وقد نقلت الصحيفة عنه
قوله بضرورة الضغط على البدون "نفسيا واجتماعيا ليُخرج جنسيته"، وهذه
بالضبط هي سياسة "الجهاز المركزي" برئاسة عضو مجلس الأمة الأسبق صالح
يوسف الفضالة، وهو بالمناسبة المسؤول الأول عن التقرير الختامي الذي أعدّته "لجنة
تقصي الحقائق عن موضوع الغزو العراقي الغاشم على دولة الكويت"، وذلك بصفته
رئيسا للجنة آنذاك.
لكن ماذا يعني الضغط على البدون "نفسيا واجتماعيا
ليُخرج جنسيته"؟ لاحظ أولا أنّ السؤال يتضمّن اتهاما صريحا بأنّ
"البدون" لديه جنسية بلد آخر وبأنّه يُخفي تلك الجنسية! لكن إذا كان
الاتهام صحيحا، فإنّ هذا معناه أنّ "الجهاز" لا يملك دليلا على وجود تلك
الجنسية، وإلّا لما احتاج إلى الضغط "نفسيا واجتماعيا ليُخرج (البدون)
جنسيته"، كما أنّ هذا الاتهام لا يستقيم مع حقيقة الضغط الذي مورس على
"البدون" لشراء جوازات سفر من دول أخرى بحجة تعديل أوضاعهم كي لا يخسروا
وظائفهم، فهل الهدف من الضغط "نفسيا واجتماعيا" هو إجبار "البدون"
على الكشف عن "جنسيته الحقيقية" أم إجباره على تبنّي جنسية جديدة؟ بل
إنّ العبث والتخبّط في هذا التعامل الفج مع ملف "البدون" لا يقفان عند
هذا الحدّ، فالذين استجابوا للضغوطات وقاموا بشراء جوازات سفر أجنبية تمّ اتهامهم
لاحقا بالتزوير! في لقاءه المذكور أعلاه، يعترف اللواء مازن الجراح بكل صراحة أنّ
الغالبية "عدّلت وضعها لجنسية دومينيكان والصومال واليمن"،
حيث ذهب "الكثيرون...واشتروا (جوازات) بأنفسهم...ولم يعودوا بدون"! لو
سلّمنا بصحة ما يقوله اللواء الجرّاح، فإنّ من الواضح أنّ المطلوب من
"البدون" في حقيقة الأمر، ليس أن يكشف عن جنسيته، بل أن يُخفي
"بدونيّته"، وإلّا ما معنى أن تتم عملية تزوير بهذا الحجم وبعلم أجهزة الدولة
بل وتجشيعها؟!
لننتقل إلى الشقّ الثاني من السؤال: ماذا يعني الضغط
على البدون "نفسيا واجتماعيا"؟ يعني ببساطة خنقهم بلا هوادة ولا رحمة من
خلال مخاطبة وزارات الدولة وتوابعها من جمعيات النفع العام لإجبارهم باسم القانون على
تعطيل أبسط المعاملات الإدارية للأفراد من فئة "البدون"، وبالأخصّ أولئك
"البدون" ممن رفضوا تجديد ما يسمى "البطاقة الأمنية"، وهي
البطاقة التي يشتكي العديد من "البدون" من أنّ تجديدها يتطلّب التوقيع
على صحة البيانات الواردة فيها حتى قبل معرفتهم بمضمون تلك البيانات! لقد حوربت
هذه الفئة المغلوبة على أمرها في حقّها في العلاج والسفر والتعليم وغيرها الكثير،
بل إنّ الأمر وصل إلى حدّ وضع العثرات أمام غالبية المتفوقين والمتفوقات منهم في استكمال
دراستهم الجامعية، كما حُرمَ المحتاجون منهم من حقّهم في أموال الزكاة بعد أن
اشترط "الجهاز" على "بيت الزكاة" ضرورة استيفاء شرط
"صلاحية البطاقة الأمنية"، وهو الشرط نفسه الذي انصاعت له جمعية
"إحياء التراث الإسلامي" وغيرها من جمعيات النفع العام عند دفع أجور
العاملين لديها من فئة "البدون"!
السؤال ما زال قائما: هل نحن نعترف أصلا بمعاناة
إخواننا "البدون"؟ على مستوى الأفراد، لا شكّ في أنّ هناك حالة تعاطف
كبيرة مع هذه القضية الإنسانية من قِبل العديد من الكويتيين والكويتيات، وإذا كان
في هذا التعاطف دليل على اعتراف واضح بمعاناة "البدون"، فإنه مع ذلك لا
يكفي للتحلّي بروح المسؤولية الأخلاقية تجاه هذه المعاناة الإنسانية، فالمطلوب منّا
كأفراد يتعدّى بكثير مجرّد إرسال "تغريدة تضامن" ثم العودة من جديد إلى
الخانة المريحة من حياتنا، ذلك أنّ المطلوب هو أن نفهم أولا تفاصيل قضية
"البدون"، وأنْ نُدرك ثانيا تفاصيل معاناتهم على أيدي أرباب
"الجهاز"، فالمعرفة هي أول خطوة جادة لطرح الكسل جانبا على طريق التحلّي
بروح المسؤولية الأخلاقية، ومن المعيب أنّ العديد من المتعاطفين مع هذه القضية
يجهلون الكثير عن تفاصيلها!
لكن ماذا عن العارفين بتفاصيل معاناة
"البدون" ومع ذلك لا يبدون أي تعاطف تجاهها؟ هذه ظاهرة تسترعي الانتباه،
فهناك ممن عُرف عنهم اهتمامهم الكبير بقضايا حقوق الإنسان، ومع ذلك لا تصدر عنهم
إشارة واحدة على الأقل للإعراب عن إدانتهم الصريحة لتعامل "الجهاز" مع
ملف "البدون"، بل إنّ منهم مَن لا يُشير على الإطلاق إلى معاناة
"البدون" ويكتفي بدلا من ذلك بالاهتمام في توافه الأمور التي تضجّ بها
وسائل التواصل الاجتماعي! إلى جانب هؤلاء وأولئك، هناك بالطبع تلك الفئة التي
تُشير على استحياء إلى هذه القضية الإنسانية، ليس بغرض مناصرتها، بل لمجرد رفع
الحرج عن نفسها، وهم بذلك أشبه بمن يأتيك في عزاء، لا لِيؤدي حقكّ في المواساة، بل
ليقوم بواجبه في الحضور!
عندما ننتقل من مستوى الأفراد إلى مستوى الجماعات،
فإنّ المسؤولية الأخلاقية تجاه معاناة "البدون" تكاد تكون معدومة، ومن
اليسير جدا تفسير هذا الصمت الكبير من قبل مؤسسات المجتمع المدني من خلال الواقع
السياسي الراهن، فنحن نعيش منذ سنوات في حقبة "الصوت الواحد"، أي صوت
السُّلطة التي جعلت من عباءتها مرتعا لكل متخاذل ومنافق وانتهازي، لكن إذا كنّا
قادرين على تفسير هذا الصمت الكبير تجاه معاناة "البدون"، فإننّا لن نستطيع
أبدا تبريره، فمن ذا الذي يستطيع تبرير حرمان طفل من التعليم لأنّ أباه
"بدون"؟ ومن ذا الذي يستطيع تبرير إيقاف الراتب الشهري لموظّف بسبب رفضه
الانصياع لابتزاز "الجهاز"؟ بل كيف نستطيع تبرير حرمان فئة من البشر من
أبسط حقوقهم الإنسانية بذريعة الضغط عليهم "نفسيا واجتماعيا" لأيّ سبب
كان؟
ما معنى، مثلا، أن تهتمّ جمعيات هيئة التدريس على
المستوى الجامعي بتنظيم الرحلات السياحية لأعضائها في الوقت الذي لم تكترث فيه تلك
الجمعيات حتى بمجرّد الإشارة إلى معاناة الطالبات والطلاب "البدون" ممن
حُرموا من حقهم في التعليم؟ بل ما معنى أن تنتفض الجمعيات نفسها لتخوض معركة ضارية
مع السلطة التنفيذية في قضية "الكوادر" قبل سنوات، ثم تجبن عن مجرّد
إصدار بيان استنكاري ضدّ سياسة "الجهاز" التعسفية بحق الطلاب
"البدون"؟ هل بات جيب "الدكتور" أولى من مستقبل الطالب؟
ذكرى الاحتلال في جوهرها تأمّل عميق في بشاعة الظلم،
هي في صميمها دعوة إلى التحلّي بروح المسؤولية الأخلاقية للدفاع عن المستضعفين بعد
أنْ جرّبنا معنى الضعف، وعن المُذليّن المهانين بعد أنْ تجرّعنا مرارة الذلّ
والهوان، ومن المعيب أن تمرّ ذكرى الاحتلال من دون أنْ نُساءل أنفسنا عن دورنا في
التخفيف عن معاناة بشر من جهة، وفي التصدّي للقمع الحكومي لهم من جهة أخرى.
هناك 3 تعليقات:
من أفضل ما قرأت في قضية البدون،،
يجمع قلمك بين جمال الفكر وبلاغة التعبير، رغم اختلافي معك في بعض الأمور، إلا أن ما يسطره قلمك يستحق القراءة والتمعن.
سياسة سأعذبك وأؤذيك حتى تنتفض
فاذا انتفضت سأعدمك بتهمه الثوره ضد الدوله
البدون جناسيهم معروفه حتي المستحق منهم اشتغلت فتره بسيطه باحد الاماكن بدوله وكنت اشوف كثير منهم يسافر بجوازه الخاص بدولته من غير توثيق ( بواسطه طبعا ) ومسجل بالكويت بدون ومالوم انهم يفكرون بالجتسيه لانه فيها مزايا وفي ناس ماتستحق حصلت علي الجنسيه بطرق مشروعه وغير مشروعه ...
إرسال تعليق